ارشيف الذاكرة .. معلم وخيزران
يمنات
أحمد سيف حاشد
بدأت دراستي الأولى بمدرسة الوحدة بقريتي “شرار” في القبيطة .. بدأت هذه المدرسة بمدرِّس واحد فقط، و هو الأستاذ علي أحمد سعد، من مواليد الحبشة لأب يمني جاء إلى القرية ليدرس أبناءها القراءة و الكتابة و الحساب .. جاء ليقدم شيئا من المعرفة الأساس لأبنائها المحرومين من التعليم، و ذلك بمقابل نقدي متواضع و مقدور عليه من قبل الآباء .. كان مدرس ممتازاً و صارماً و مهتماً، و لكنه أيضا قاس في تعامله مع تلاميذه لمجرد أدنى تقصير أو إهمال.
ابتدأت مدرسة الوحدة بمسجد قروي متواضع و حُجرة متهالكة، تلاه بناء غرفة للادارة، ثم صارت أربعة فصول .. تم بناء فصولها الأربعة اللاحقة على مقبرة قديمة لا نعرف إلى أي زمن تعود .. بدأ البناء فيها عندما غلبت فتوى جواز البناء على فتوى منع البناء على المقبرة..
درس بعضنا فوق سطح المسجد و بعضنا تحت الشجر .. مدرسة الوحدة هي مدرستي الأولى التي درست بها إلى الصف الرابع ابتدائي .. كان اسم “الوحدة” بالنسبة لي جاذبا، و كنت سعيدا و معتزا بهذا الاسم حتى بعد أن أكملت دراستي الجامعية، لاسيما عندما أتحدث عن دراستي الأولى، و لعل هذا الاسم و مضمونة كان جزء أصيلا منّا، و معبرا عن عمق ذاتنا و انتمائنا و حنيننا، و أملنا الجارف لتحقيق تلك الوحدة، التي لطالما حلمنا بها، بل كانت تقف على رأس و مقدمة أهدافنا و أحلامنا العريضة و الكبيرة..
كانت عصا الخيزران التي على ما يبدو أن (الاستاذ) علي أحمد سعد قد أحضرها معه من الحبشة لعقاب تلاميذه هي الوسيلة الأكثر استخداما في التربية و التعليم من خلال إنزال عقوباته على تلاميذه عند الإهمال أو التقصير أو التأخر عن طابور الصباح..
(الفلكة) واحدة من بين عقوباته الشديدة التي ينزلها على بعض تلاميذه، و هي الجلد على قاع القدمين، و التي تربو أحيانا عن العشرين جلدة، و الأسوأ أن الجلد كان عنيفا لأطفال مثلنا حتى يبدو في بعض الأحيان أن ما يفعله هو انتقاما حاقدا و ليس ما هو دون ذلك، بل كنت أشعر أن الأستاذ يستلذ بممارسة جلد تلاميذه بالخيزران..
من أجل تنفيذ عقوبة “الفلكة” بحق تلميذ مقصر كان يحتاج إلى أربعة من أقرانه من ذوي الأجسام الغليظة لمساعدته في تنفيذ عقوبته، يمدونه على الأرض و يمسك اثنين منهم بيديه و صدره و مثلهم يرفعون قدميه و يمنعونه من الحركة ليتولى الأستاذ الضرب بالخيزران بقوة على قاع القدمين المضمومتين قبالته.
و من عقوباته الشائعة التي يُكثر من استخدامها جلد بطن الكف بالخيزران بشكل متوال يصل فيها عدد الجلدات أحيانا إلى عشر لكل كف، و إذا أراد الاستاذ التنكيل بتلميذه أكثر كان يمكنه أن يضربه بالخيزران في قلب اليدين، و كان الألم أشد و أوجع..
كنّا أحيانا نجد أنفسنا لا نقوى على مد اليد جراء شدة الألم الناتج عن هذا الضرب المُبرح .. كنا نحس أن أكفنا قد أدركها الشلل و هو يهوي عليها بالخيزران بقسوة دون رحمة أو مراعاة لألم لاسع يصل شرره أحيانا للجمجمة..
في أيام البرد يشتد هذا الحال وطأة و نكاية .. كنَّا نحس عقب ما ينتهي من تنفيذ عقوبته أن الدم يكاد يهر من الكفين .. كنا نرى أكفنا و هي تكاد أن تنبجس دماً .. كنا نشعر أننا لم نعد نقوى على حمل أيدينا فضلا عن الأكف بعد أن ينتهي من تنفيذ العقاب.
و من عقوباته الجسدية الأقل وطأة هي إجبار التلميذ على أن يقف على ساق واحد أو الضغط على الإذن بثلاث من أصابعه بعد أن يضع حصية تحت إحدى الأصابع ليضغط بها على شحمة الإذن بينما يضغط بالأصبعين الأخريين على الجهة المقابلة ليزيد من حدة التنكيل و الألم .. الأمر العجيب هو أن هذه القسوة المفرطة في العقاب لم تكن لتلاقي تحفظا أو اعتراضا من أولياء أمور التلاميذ، بل ربما يُسعد بعضهم..!
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.